الثلاثاء، 12 يوليو 2016

الصهيونية فى العقل العربى

كانت هذه الدراسة بمثابة اشتباكا مبكرا مع الصهاينة العرب

الصهيونية فى العقل العربى

الدكتور/ عصمت سيف الدولة

 ما الصهيونية ؟
  فى البدء  كانت الصهيونية نظرية ، اصبحت استراتيجية بالعناصر الثلاثة  لكل استراتيجية : التنظيم ، الخطة، الهدف. ثم اصبحت  الصهيونية مواقف  وحركة ومعارك تكتيكية . ولايعنى  قولنا ان الصهيونية كانت ثم اصبحت انها انتقلت من مرحلة انقضت الى مرحلة جديدة ، بل  يعنى انها قد تمت واضيف الى مضمونها  الفكرى مضمون استراتيجى  ثم مضامين تكتيكية . فهى نظرية  على المستو ى الفكرى ، وهى تنظيم ذو خطط واهداف محددة على المستوى الاستراتيجى  وهى حركة جزئية  او مرحلية . فكرية او عملية ، فردية او جماعية ، على المستوى التكتيكى ، وكلها صهيونية .
  يكون من المفيد لنا ، نحن العرب، حين نتحدث  عن الصهيونية او نستمع الى حديث عنها ، حين تواجهنا او نواجهها، ان نعرف  ونحدد  المستوى الصهيونى الذى يدور عليه الحديث  او تجرى عليه المواجهة . قلت مفيدا ، واقول انه حيوى . اعنى ان هذه المعرفة بمستويات الصهيونية، والاستفادة بها مسالة حياة   اوموت  بالنسبة الينا نحن العرب . بحيث ا ن  أى خلط او خطأ ، أى جهل او تجاهل ، لمستويات الصهيونية قد يؤدى ـ فى صراعنا معه ـ الى هزيمتنا هزيمة لانعرف كيف وقعت . وافدح الهزائم واكثرها تدميرا هى التى لايعرف المهزوم كيف وقعت .
ترجع هذه الحيوية الى سببين متكاملين :
السبب الاول: ان مستويات الصهيونية ، مثل مستويات اية حركة سياسية يحكم بعضها بعضا ويحدده .فالنظرية  هىالمبدأ والمقياس الثابت. فهى تحكم الاستراتيجية وتحددها . بمعنى ان الاستراتيجية ، مهما تعدلت خططها ، او حتى   تغيرت ، لاتستطيع ان تفلت من اطار النظرية  . وستبقى  غايتها دائما تحقيق الهدف الذى حددته تلك النظرية . ثم ان المواقف الفكرية او الحركية ، الجزئية أو المرحلية ، الفردية او الجماعية ، السلمية او العنيفة ، التى تقع على مستوى التكتيك تكون  محكومة بالاستراتيجية  طبقا لهذا يكون من الحيوى بالنسبة الينا ، حين نتحدث عن الصهيونية او حين   نواجهها ، ان نميز بين تلك المستويات الثلاثة   ،ثم نتعرف اين يقع  الحديث او المواجهة منها . ثم ان نكتشف ، بالرغم من كل تمويه  ، حقيقة  الموقف التكتيكى برده الى الخطة الاستراتيجية لنعرف  على أى وجه يخدمها . ثم نراقب  الاستراتيجية  وننتبه الى  ماقد يصيبها من تغيرات لابد لها من ان تكون اكثر ملاءمة  عند اصحابها ، لتحقيق  الهدف . فاذا غم علينا الامر رددناه الى النظرية .. اذ هى المصدر الاول لكل حركة والمقياس الاخير لكل موقف .
  السبب الثانى : ان مستويات الصهيونية ، مثل مستويات اية حركة سياسية اخرى ، تتراكم وتتراكم  متجهة .من الفكر المجرد  الى الواقع العينى . من النظرية الى الاستراتيجية  الى التكتيك حيث تدور المعارك الفعلية  متنوعة المضمون  متنوعة القوى متنوعة الاسلحة . ولكن خط ، الانتصار  او الهزيمة يتجه ـ بالعكس ـ  من الواقع العينى  الى الفكر المجرد . يتم النصر  او الهزيمة  على المستوى التكتيكى  ، وبتراكمه تهزم الاستراتيجية او تنتصر ، ولكن النصر النهائى، او الهزيمة ، لاتتم  الا بهزيمة النظرية  ذاتها ، أى حين لا تجد احدا يقتنع بها وينطلق منها الى استراتيجية جديدة ، او بانتصار  النظرية ذاتها حين يتمكن الطرف المنتصر تكتيكياواستراتيجيا من صياغة  الواقع طبقا لنظريته . وبناء على هذا يكون من الاخطاء القاتلة  لاى طرف  ان يحسب النصر التكتيكى نصرا استراتيجيا  او يحسب  النصر الا ستراتيجى حسما نهائيا للنزاع . وبالعكس ان يعتبر الهزيمة التكتيكية  هزيمة استراتيجية او يعتبر الهزيمة الا ستراتيجية حسما نهائيا للصراع .
    فى عام 1967 ادرك جمال عبد الناصر مستوى الهزيمة بالرغم من جسامتها ، وقدم مثالا رائعا للقائد الذى يعرف طبيعة المعارك التى يخوضها ، فبعد شهرين فقط من الهزيمة الجسيمة رفع شعار " مااخذ بالقوة لايسترد الا بالقوة " ، وشعار " لامفاوضة ، لاصلح ، لا اعتراف " . وفى العام ذاته سئل وزير خارجية الصهاينة ، ابا ايبان ، عما اذ اكانت الصهيونية ستفعل لو نجح العرب فى تدمير اسرائيل فقال: كنا سنبدأ من جديد لاقامة دولة اسرائيل . وكان كلاهما يعبران عن السمةالتكتيكية  للنصر الصهيونى  والهزيمة العربية عام 1967.
***
    الصهيونية نظرية :
   الصهيونية نظرية فى القومية . تقول : ان اليهود امة . ولابد ان ننتبه الى هذا المفهوم  الصهيونى للامة العربية ، اولا: لان معرفته معرفة واضحة هى الضابط النهائى  للمواقف  الصحيحة من الصراع العربى الصهيونى . وثانيا : لان مشكلة الامة  والقومية مشكلة قائمة فى الوطن العربى على المستويين الفكرى والحركى . أى اننا ـ على وجه ـ نستعمل فى حديثنا عن الامة العربية ومستقبلها ذات الالفاظ التى يستعملها الصهاينة عن الامة اليهودية ومستقبلها . وقد يؤدى هذا الى ان تختلط فى اذهاننا المفاهيم فنتصور ان لنا ولهم نظرية واحدة فى الامة القومية .
اليهودية دين كما نعلم . واليهود هم ممن يؤمنون بذلك الدين ، ولما كان  الايمان بالدين ، أى دين، لايتوقف على الجنس او اللون او اللغة  اوالانتماء  الاجتماعى ، فهو انتماء مفتوح لكل من يؤمن ، فاننا نستطيع ان نتبين بسهولة ان اليهود ،  لمجرد انهم يهود،  لايكونون امة . والواقع  انه لاتوجد فى التراث العالمى كله ، على كثرة مافيه من نظريات فى الامة والقو مية ، نظرية  تقول ان اليهود امة الا النظرية الصهيونية .فالامة فى الصهيونية لاتحتاج فى تكوينها لتاريخى الى وحدة الدم او الجنس او اللغة او الارض او الحياة الاقتصادية .. بل يكفى لتكوين  الامة الانتماء الدينى ومايولده من قرابة روحية تميز بين اليهود وغيرهم من الامم .
    وتختلف هذه  النظرية اختلافا اساسيا عن مفهوم الامة والقومية فى الفكر العربى الحديث . حيث الامة "  مجتمع ذو حضارة متميزة من شعب معين مستقر على ارض معينة خاصة ومشتركة تكون  نتيجة تطور تاريخى مشترك ". ويدخل فى هذا التعريف كل ماتعلمناه من مميزات الامة  كاللغة او الثقافة او الدين فتلك عناصر  التكوين الحضارى وهى تختلف من  امة الى امة  تبعا لظروف لتطور التاريخى الذى كونها . اما عن المصالح الاقتصادية المشتركة فهى متوافرة فى كل مجتمع حتى لو لم يكن امة . واما الحالة النفسية المشتركة  والولاء المشترك .. الخ . فتلك معبرات فى الافراد عن وعيهم الانتماء الى ا مة قائمة ، ولكن الوجود القومى ، الامة ، لايتوقف عليها على اى حال فان  الفارق  الاساسى بين النظرية الصهيونية والنظرية العربية فى الامة هو الاختصاص بالارض والتفاعل معها حضاريا .
***
الصهيونية استراتيجية :
للاستراتيجية عناصر ثلاثة : الاداة . الخطة . الهدف.
(1) اما الاداة الصهيونية ، فهى المنظمة الصهيونية ، وليس مؤسستها السياسية   المسماة اسرائيل  ، كما قد يتبادر  الى الذهن . الصهيونية  منظمة هى التى جمعت الصهاينة وحشدت جهودهم من اجل هدفها . وهى التى بدات بالغزو السلمى قبل 1948 لارض فلسطين  فى شكل  الهجرة وشراء الاراضى ، وهى التى عبأت ودربت وسلحت قواها    استعدا دا للغزو المسلح . وهى التى غزت ثم  اقامت  دولة اسرئيل على قطعة محدودة   من الارض العربية . وهى التى تقف وراء اسرئيل وتستخدمها  كقاعدةانطلاق الى اسرئيل الكبرى التى تمثل  الهدف  النهائى . 
وينبغى  ان ندرك ، ان القول الفصل فى مصير الصراع العربى الصهيونى ليس ما تقوله و تفعله او تقبله اسرئيل القائمة  بل ماتقوله او تفعله او تقبله الصهيونية المنظمة على  المستوى العا لمى . والواقع ان اسرئيل ليست الا المشروع المصغر للهدف الصهيونى . وهى لاتمثل  من بين ادوات الغزو الصهيونى  اخطرها  واقواها تاثيرا فيجاورها  ووراءها   واقوى منها اثرا تلك القوى العالمية التى عبأتها الصهيونية  المنظمة من دول وجماعات وافراد  وافكار واموال وأعلام لتدعم قوة اسرائيل ثم تمد لها الارض العربية حتى تتقدم عليها  باقل خسائر ممكنة ..وقد تجنح حكومة فىاسرائيل  الى السلام  وقد تقبل  التخلى عن التوسع  ولكن هذ ا لن يكون  عند المنظمة الصهيونية  الا استسلاما او خيانة من حكام الدولة القاعدة  ولن تلبث  الصهيونية  ان تغير من تشكيل  الحكم فى دولتها الصغرى لتستانف مسيرتها الى دولتها الكبر ى.
  (2) اما الخطة الاستراتيجية  الصهيونية فتتميز اساسا بانها  عدوانية . ذلك ، لانها ، بحكم الفرق بين منشأ القوة وهدفها ، لابد ان تكون هجومبة . وقد تقف اسرائيل موقفا دفاعيا . وقد تتقهقرولكن هذا لن يكون الا موقفا تكتيكيا فى معركة تكتيكية فى نطاق استراتيجية هجومية عدوانية اصلا . وهو مايعنى تماما انه بعد أى توقف او تقهقر لايملك الصهاينة ، واداتهم اسرائيل ، الا ان يعودوا الى الهجوم  الى ان يتحقق هدفهم الاستراتيجى  او الى ان تهزم الصهيونية نهائيا . فهى اذن استراتيجية  هجومية عدوانية ، هجومية منسوبة الى الصهاينة . عدوانية منسوبة الينا نحن العرب.
(3) اما الهدف ، فقد حددته النظرية على وجه لايستطيع أى صهيونى ان يحيد عنه او يتوقف دونه ويبقى صهيونيا . وتمكن صياغته على الوجه الاتى: مادام اليهود ا مة  فان من حقهم ان يفعلوا ماتفعل كل الامم ، وان يعاملوا كما تعامل الامم . ومن حق الامم ان تقرر مصيرها بنفسها مستقلة عن اية امم او شعوب  اخرى . وهو مايعنى ان تكون لها دولتها القومية . والدولة لاتقوم الا من شعب معين على ارض معينة . اما الشعب  فهو كل اليهود ايا كانوا من اطراف الارض. عليهم ان يجتمعوا على ارض دولتهم . اما عن الارض المعينة ، فهم يقراون فى كتاب يسمونه التوراة ، وهو كتاب ظهر لاول مرة فى عهد الملك يوشا بعد وفاة موسى بن عمران بسبعة قرون كاملة ( سفر الملوك الثانى ـ اصحاح 22) . يقراون " لنسلك اعطى هذه الارض من نهر مصر الى النهر الكبير نهر الفرات " (سفر التكوين اصحاح 15 اية 18). الا انها ارضهم تاريخيا ؟ .. لا. يقراون وعد " يهوه" لاسرائيل بان سيقوده " الى مدن عظيمة لم تبنها ، وبيوت مملءة كل خير لم تملأها ، وابار محفورة لم تحفرها ، وكروم زيتون لم تغرسها "( سفر التثنية ـ اصحاح 6 ـ اية 11) . وماذا عن سكانها واصحابها ؟.. يقراون :" انى ادفع الى ايديكم سكان الارض فتطردهم من امامك" ( سفر الخروج اصحاح 23 اية 22) .
 وهكذا نعرف مايعرفه الصهيونيون ، وهو ان هدفهم الاستراتيجى الاستيلاء على ارض عربية تمتد من نهر النيل الى نهر الفرات ،واخلاؤها من سكانها ليقيم فيها يهود العالم كله دولتهم القومية .
***
 الصهيونية تكتيكا :
 لايمكن حصر  المواقف والاساليب والمراحل التكتيكية التى تترجم الخطط الاستراتيجية . ذلك لانه على المستوى التكتيكى تدور المعارك الفعلية ويلتحم المتصارعون وتتعدد الاطراف المشتركة بحيث لايستطيع أى طرف ان ينفرد باتخاذ موقف تكتيكى غير متاثر بالموقف  المضاد ، ولا ان يستعمل سلاحا بعيدا عن قياس مضائه على مضاء الاسلحة  التى يواجهها . باختصار يمثل المستوى التكتيكى الميدان المرن للمناورة فيه تتجلى كفاءة المقاتلين والقادة ، لا فى ميدان القتال فقط ، ولكن فى المقدرة على مواجهة المواقف الطارئة . والملاءمة بين حركاتهم وحركات القوى المضادة .. وتتوقف تلك المقدرة الى حد كبير على الادراك الثابت للتناقض بين الخطط الاستراتيجية للمتصارعين حتى يستطيع كل مقاتل او مشترك فى الصراع ان يطور من اساليبه التكتيكية باقصى قدر من المرونة ، ولكن بحيث لاتنتقل اساليبه من مجال خدمة استراتيجيته الى مجال خدمة استراتيجية العدو . فيكون قد هزم نفسه .
   ومع ذلك فلا باس من ان نقول ان حكماء صهيون قد اطلقوا حركة الصهيونية  من اية قيود انسانية او خلقية من اول القتل الى الكذب وقالوا يوصون ابناء صهيون ": اضربوهم وهم يضحكون ، اسرقوهم وهم لاهون ، قيدوا ارجلهم وانتم راكعون ، ادخلوا بيوتهم واهدموها ،تسللوا الى قلوبهم ومزقوها ".
***
  الهزيمة والاستسلام :
  طبقا للمقاييس التى ذكرناها تحقق الصهيونية هدفها باحدى طريقتين هزيمة العرب  او استسلامهم . اما بالاستيلاء على الارض العربية عنوة واخلائها من البشر واقامة دولة اسرائيل عليها ، واما تخلى العرب عن الارض  وتركتها لهم خالية ليقيموا عليها دولتهم . ولانقصد من قولنا خالية  الايوجد فيها عربى على الاطلاق ولكن نقصد ان لايقيم فيها  الا العربى الذى تقبل اسرائيل  اقامته . ذلك لانه لايخفى ان دولة اسرائيل  ستكون فى حاجة الى بشر من الدرجة الثالثة يعفون ابناءها من عبء العمل المرهق او العمل القذر وكمذيعين على موجات البث باللغة العربية ، وجواسيس ايضا.   
    المهم انه نتيجة الخلط المضطرب فى المفاهيم فى المرحلة الحالية اصبح من اللازم التفرقة بين الهزيمة والاستسلام .
  ان الهزيمة هى التخلى عنوة عن هدف تكتيكى او استراتيجى . اما الاستسلام فهو قبول التخلى عن هدف تكتيكى او استراتيجى بدون صراع . وقد يبدو الفارق بينهما دقيقا على المستوى التكتيكى . اذ قد يتم  الانسحاب بدون قتال من موقع تكتيكى نتيجة لتقدير القيادة لموازين القوى ، وتجنب خسائر محققة . هذا ليس استسلاما ولكنه مناورة ، واحدة من فنون الصراع  التى يجيدها الراسخون فى علم الصراع وفنونه .  وقد تكون مناورة الانسحاب ، والتخلى عن الارض ، بل حرقها وتدميرها ، ابرع تكتيك يخدم الهدف الاستراتيجى . كما فعل الروس مرتين امام نابليون وهتلر . وفى صراعنا مع الصهاينة ، اعنى الصراع العسكرى ، هزمنا عام 1948 وعام 1956 وعام 1967 وهزمناهم عام 1973، وكانت كلها معارك تكتيكية . فى عام 1948و1967 تخلى كثيرون من الشعب العربى فى فلسطين عن الارض وغادروها وكان ذلك يبد واستسلاما، ولكن حين تحول الشعب العربى الفلسطينى خارج الا رض المحتلة الى منظمات مقاتلة وبدا القتال اقتحاما اصبح من الممكن القول بان الهجرة تمثل انسحابا تكتيكيا وليس استسلاما . وحين امر الرئيس عبد النااصر بسحب الجيش المصرى من سيناء عام 1956 حتى لاتطوقه القوات الانجليزية والفرنسية الهابطة خلف منطقة القتال كان انسحابا تكتيكيا وليس استسلاما .. وهكذا .
    ولكن الفارق  بين الهزيمة والاستسلام يبدو واضحا حين تقع الهزيمة على المستوى التكتيكى فيتم التراجع على المستوى الاستراتيجى ، او حين تقع الهزيمة على المستوى الاستراتيجى فيتم قبول وتبنى نظرية المعتدين . وهو هنا استسلام لانه ليس النتيجة اللازمة للهزيمة . فليس من شان الهزيمة فى المعارك التكتيكية ، اعنى الجزئية او المرحلية ، ان تحسم المعركة على مستواها الاستراتيجى ، وبالتالى يكون التراجع الاستراتيجى غير مبرر ، أى تراجعا بدون صراع أى استسلاما . كما ان الهزيمة حتى على المستوى الاستراتيجى لاتعنى ان الصراع قد حسم وانما يحسم فقط حين يتبنى المنهزمون نظرية المنتصرين. واروع مثال على كل هذا معارك العرب ضد الغزو الصليبى . انهزم  العرب فى اكثر من موقعة تكتيكية  ولكنهم لم يسلموا ابدا بحق الصليبيين فى احتلال  الارض العربية ، لم يقبلوا ابدا ، ولم يتبنوا  النظرية  الصليبية ، فلم يلبثوا ، ولو بعد حين ، ان حرروا الارض وهزموا اعداءهم .  ومثاله الاخرحركات التحرر الوطنى فى العالم كله . بذرة نموها التى لم يصبها العفن ابدا ، هو رفض النظرية الا ستعمارية ، نظرية تحضير العالم اوروبيا ، نظرية تفوق الرجل الابيض ورسالته الحضارية الى البشر … ومن هذه البذرة ، وبعد قرون من العجز المادى عن المقاومة ، واتت الظروف فنبتت البذرة ثورات لم تلبث ان انتصرت .
    أليس هذا واضحا ؟.
   فما الذى يحدث الان فى العالم العربى ؟..
***
   الاستسلام الوشيك :
   هزمتنا الصهيونية عام 1948 واحتلت جزءا من فلسطين . وهزمتنا عام 1956 وخرجت من المعركة مستولية على مياهنا الاقليمية فى خليج العقبة . وهزمتنا عام 1967 واستولت على سيناء  والضفة الغربية والمرتفعات السورية .وفى مقابل هذا كنا ندرك ان تلك هزائم تكتيكية ونعد العدة لاستئناف المعارك . تحول شباب اللاجئين الى مقاتلين واقتحموا حدود وطنهم . وتقدم العرب الى القائد الذى انهزم يعوضونه ماليا عن دخل القناة ، ويتعاهدون معه على " الا مفاوضة ولاصلح ولااعتراف ". ومن مرحلة الاعتراف بالحطأ بدأت خطى التصحيح . وعبأت اكثر من دولة عربية كل قواها المادية والبشرية لاعادة انشاء الجيوش التى سحقتها الهزيمة ، واستؤنف القتال تحت اسم حرب الاستنزاف بعد اقل من ستة اشهر من الهزيمة علاقاتها الدولية على اساس ان مااخذ بالقوة لايسترد الا بالقوة . وحين وجد القادة لم يخذلهم الشعب وجاءت لحظة الاختبار التاريخى حين واجه جنودنا جنود الصهاينة  فى فرصة متكافئة  وانهزم الصهاينة  فى معركة تكتيكية ايضا .. ولكنها امدتنا باقوى اسلحة النصر النهائى : الثقة فى اننا نستطيع ان ننتصر .
    بكل منطق قومى او وطنى او علمى او حتى نفسى .. كان ذلك يعنى اولا : ان يدرك العرب ان نصر اكتوبر 1973 كان نصرا فى موقعة تكتيكية ، لم يحسم الصراع بين العرب والصهيونية على المستوى الاستراتيجى .ولكنه مهد لحسمه لصالح العرب . ثانيا : الايتركوا للعدو فرصة التقاط انفاسه وا سترداد قواه والتحول من الدفاع الى الهجوم . ثالثا : ان يحتفظ القادة بالثقة بالنصر التى قدمها اليهم الجنود بعد ان اشتروها بدمائهم  الغالية . رابعا : ان يكمل العرب ماينقصهم من عناصر القوة  فيضيفوا الى خططهم التكتيكية الجزئية المرحلية خطة استراتيجية شاملة بعيدة الامد .. خامسا: ان يكتشف العرب من خلال عناصر النصر الذى تحقق فى اكتوبر 1973 اصوله المبدئية ، ان يكتشفوا من خلال ماحقق عنصر التنسيق العربى من نصر مدى ماتتضمنه الوحدة من انتصار ، ومدى مسئولية  التجزئة عن مرحلة الهزائم .
   بكل منطق كان يجب ان نوالى انتصاراتنا العربية التكتيكية ، لتحقيق النصر على المستوى الاستراتيجى ، لنصوغ الحياة على الارض    العربية طبقا لنظريتنا القومية ، ونقنع الصهاينة بها ليبحث كل منهم عن ارضه التى جاء منها .
    ضد كل هذا ،
  ضد معطياته العينية ، المادية والبشرية والفكرية ، حدث مالم يحدث فى تاريخ الشعوب كلها بقدر مااعرف من تاريخ الشعوب . وفى ذات للحظة التى انتصرنا فيها فى معركة تكتيكية استسلمنا اونحن على وشك الاستسلام ، لا اقول على المستوى الاستراتيجى ، بل اقول على المستوى المبدئى . كان امامنا خيارات عدة  تقع جميعها على مستوى المعركة التى انتصرنا فيها . كان ممكنا ان نواصل المعارك . كان فى امكاننا ان نتوقف مرحليا . كان فى مقدورنا حتى ان نتخلى عن المكاسب التى حققناها ، وهو اقصى ، واقسى ، مايمكن ان يختاره المقا تلون على ا لمستوى التكتيكى . وكان يمكن ان يكون لكل هذا مبررات ، من الظروف الدولية ، او من الظروف العربية ، او من الظروف المحلية ، سواء كانت ظروفا سياسية او اقتصادية او حتى ذاتية ،  وسواء ‏كانت ظروفا صحيحة او غير صحيحة .. وكنا ستلف فى هذه المبررات ، ولكن خلافاتنا ماكان لها ان تتجاوزمستواها التكتيكى ، أى ان اقصى ماكنا سنختلف فيه هو : " كيف نواصل الصراع حتى نهزم الصهيونية على جميع مستوياتها .
   ولكن شيئا من هذا لم يحدث ..
    الذى حدث اننا بطريقة غريبة على التاريخ ، غريبة على الشعوب ، غريبة على تاريخ الشعب العربى بالذات ، انتقلنا ، نحن الذين انتقلنا . من نصر تكتيكى الى استسلام مبدئى ، موفرين على عدونا عناء الصراع على المستوى الاستراتيجى .
    ذلك لاننا سلمنا ببساطة بان من حق اليهود ان يقرروا مصيرهم ، أى انهم امة . ,ان من حق هذه الامة ان تكون لها دولة قومية وان تقوم تلك الدولة القومية ، الصهيونية ، على جزء من الارض العربية ، وان يكون هذا الجزء بالذات مااشارت اليه التوراة التى يقراها الصهاينة .لم يحدث ابدا ان ارغمنا الصهاينة  على تبنى نظريتهم هذه . لانه لم يحدث ابدا ان هزمونا على المستوى الاستراتيجى ، ولم يحدث ابدا ان حققوا من الانتصارات مايحسم الصراع بالنسبة اليهم على المستوى التكتيكى، وقد كان اخر لقاء بيننا هزيمة لهم .. لهذا قلنا ونقول :  اننا لم نهزم .. بل نستسلم او نوشك ان نستسلم …
   السنا مشغولين بوجود الشعب الفلسطينى ودولته ، السنا فرحين بان اعترف عدونا ، او بعض اعداءنا  بان هناك شعبا فلسطينيا ، وان من حقه ان يكون له موطنا، وليس حتى وطنا؟ السنا نتحاور ونتشاور  ونجادل ونختلف حول  صيغة وجود الدولة الفلسطينية ، هل تقوم مستقلة ام فى اتحاد فيدرالى او كونفدرالى مع الاردن اوسورية . السنا نركض فى انحاء الارض جميعا ، فخورين بكرمنا وسماحتنا وسعة افقنا نعرض السلام مع الصهاينة وندفع ثمنه مقدما قبول الوجود الصهيونى  على ارض فلسطين ؟ .. السنا نسعى الى حد المذلة ، علنا وخفية … ، ملتمسين من الصهاينة ان يقبلوا جوارنا مؤكدين صدق نوايانا فى قبول جوارهم ، على الارض العربية .. اليس على الارض العربية فى جنوب لبنان ، جيش مقاتل " صهيونى ـ عربى " موحد الاسلحة والامدادات والتخطيط وقد يكون موحد القيادة ؟…. ايها الشباب الا نسمى الان ، وطننا العربى ، منطقة الشرق الاوسط ؟..
  فما الذى بقى ؟..
   يقولون :" انها خاتمة جولة وستاتى بعدها جولات "  .. غدا تسترد دولة الضفة والقطاع مابقى من اسرائيل ؟..غدا نقوى فنستانف الصراع ؟ .. غدا .. ياتى جيل يلغى مافعلناه والتاريخ طويل؟ .
لايصدق من هذا القول الا القول الاخير . نعم ، غدا يأتى جيل عربى يلغى كل مافعلوه ، ولماذا غدا، انه قائم  قادر لن يولد غدا ، بل سيضرب غدا وان غدا لناظره قريب ، ولكن لماذ ايطول تاريخ المعاناة ونحن قادرون على اختصاره ..؟ السنا جيلا فاشلا؟.. افلا يكفيه فشله فيخون جيلا  ناشئا.
    اما عن الجولة  التى ستاتى بعدها جولة ، ودولة الضفة والقطاع التى ستحرر باقى فلسطين ، فلا اقول انه عناء . اقول انه احتيال . نصب . خديعة . اننا لم نحرر الضفة او القطاع او حتى جزءا منها ونقيم عليه دولتنا .ولو تم شئ من هذا ولو فى القطا ع وحده ، ولو فى مدينة واحدة من مدن الضفة لكان نصرا عظيما ، ولكننا مشغولون بقبول عرض مشروط .. مشغولون بدراسة صفقة دولة فلسطين فى مقابل دولة صهيونية . مع الاعتراف المتبادل والامن المتبادل ..  ولن ينتهى الامر عند هذا الحد.. سيستانف الصهاينة مسيرتهم العدوانية الى ان تتحقق لهم دولتهم بحدودها التى لاينكرونها.. فقط بلاسلوب الجديد .. اسلوب الاستسلام العربى …
   وبعد ،
   فلماذا استسلم العرب أو يوشكون على الاستسلام ؟ … اعتقد ان الصهيونية وحلفاءها ، بعد ان انهزموا  عسكريا فى جبهة القتال فى اكتوبر 1973 ، فتحوا من جباهنا ثغرات ، وغزوا عقولنا . اختصروا الطريق الى النصر النهائى ، فبدلا من احتلال ارضنا جزءا جزءا بدأوا فى احتلال رؤوسنا فكرة فكرة .  بدلا من الاستيلاء على الوطن يحاولون الاستيلاء على البشر ليكون الوطن لهم بعد ذلك بدون حاجة الى القهر ..
     جردونا من نظريتنا العربية ودسوا فى رؤوسنا نظريتهم الصهيونية .
      رفعوا من فكرنا القومية العربية ووضعوا بدلا منها القومية اليهودية ، ولما انمحت من ذاكرتنا دولة الوحدة قامت بدلا منها دولة اسرائيل . وكان لهم منذ البداية حلفاء جاهزون . اولئك هم الاقليميون  الذين انكروا امتهم ، فتنكروا لقوميتهم ، فمنحوا ولاءهم للتجزئة فيما بينهم . والتجزئة لاتمس بل تتدعم اذا مااعطيت الصهيونية جزءا مغتصبا  من الوطن  العربى مقابل ان تسكت عن اغتصاب الاقليمين باقى اجزائه..
   ولما انكر الاقليميون امتهم ، وفقدوا قوميتهم ، تجردوا من نظريتهم ، فلم يستطيعوا ، وما استطاع الاقليميون قط ، ولن يستطيعوا قط ، ان تكون لهم  استراتيجية موحدة فى مواجهة الصهيونية . ماكان ولن يكون للاقليمين اداة نضال عربية واحدة . ماكان ولن يكون للاقليمين خطة مواجهة واحدة . لم يلتق الاقليميون ولن يلتقوا قط على تحرير فلسطين …. وليس هذا قولا جديدا …
*****
القاهرة فى ابريل 1977

هناك 3 تعليقات:

  1. الأخ محمد سيف الدولة -لقد قرأت تحليلك المنطقي الرائع ولكن لم تشر الى الذي أشار إليه منذ 15 قرنا
    قال عليه السلام لن تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهد وتقتلوهم (لم يقل الصهاينة ) وحتى يقول الحجر والشجر يا مسلم ورائي يهودي تعال فاقتله وقد قال تعالى في سورة الإسراء وقضينا الى بين إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض ولتعلون علوا كبيرا الخ طالما أن صراعنا مذكور في القرآن والحيث النبوي الشريف فإن الأمر سيكون كالتالي
    أولا -لم يحدث على مدار التاريخ من آدم الى لآن أن تكلمت الأحجار والأشجار لتساعد أحد الطرفين ضد لآخر
    ثانيا -عندما يتكلم الحجر والشجر فها يعني أنه الإبادة الكلية لا الجماعية مدعومة من السماء ويبقى شجر الغرقد وهو شجر اليهود الذي لا يدل عليهم وهو استثناء إلهي لأن فناءهم سيكون علي الرسول عيسى عليه السلام بعد أن يقتل الدجال في بلدة اللد القريبة من الرملة .
    قضية اليهود مذكورة في القرآن في سورة الإسرء وسورة السجدة واليهود هم الذين اختارهم الله وفضلهم ولكنهم أركنواالى الأرض واعتبروا قيام دولة في فلسطين من الفرات الى النيل بعد أن يفتي الله تعالى جميع الشعوب (توراتهم تقول في أرض لا يجاورهم بها أحد) والدروز يعتقدون أن الخلق سيموتون ميعهم إلا هم والشيه نسبوا ذلك الى المهدي وقد قدروه بالحفيد الثاني عشر ولكنه مات وعمره 3 سنوات
    فقالوا إنهاختفى ولم يمت وهذا كفر صريح . وقال الصحابي الجليل عبد الله بن سلام لن تقوم الساعة حتى يحشر اليهود في أرض الشام وقد كان رئيس أحبار اليهود فأسلم في حياة الرسول عليه السلام
    متى يكون النصر - عندما يتحلى الشعب العربي بالشفافية الخلقية والدينية ويتحد (وهذا ليس حلما بل
    مذكور في الأحاديث الشريفة ) فيسمع الحجر والشجر ورأي آخر قد يسمعه اليهود فيرجفون ويتقلهم الرعب بدل سلاح الحرب - ما أعنيه هو رفع المسيح الى السماء الرابعة وقد قال تعالى وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه الخ ثم عودته لينزل في الباب الشرقي من دمشق (أخر سوق مجحت باشا ) وقال عليه السلام إذا نزل أخي عيسى لا ينبغي لكافر أن يشم نفس أخي عيس إلا مات ونفسه يمتد حيث يمتد بصره . الصراع ديني وقومي وعروبي قال عليه السلام
    مخاطبا الصحابي الجلبل سلمان الفارسي يا سلمان لا تبغضني قال وكيف أبغضك وبك هدانا الله قال من أبغض العرب فقد أبغضني فإني عربي والقرآن عربي ولغة أهل الجنة العربية . وقال أيضا يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا اليهود والنصارى بعضهم أوليا بعض ومن يتولهم منكم في في الآخرة من الخاسرين
    طالما أن القضية موثقة دينيا ونحن كعرب وقد وقعنا تحت سلاح الغرب واليهود يجب أن لا نلقي السلاح
    مهما كان قليلا أو غير فعال فالجندي الذي يضع روحه في كفه أقوى من أي سلاح وهذا ما نرجوه من الله أن يكون قريبا طالما أوشكت حلقاته أن تلتئم والله من وراء القصد
    المخلص حسن حوارنة

    ردحذف
    الردود
    1. الاخ الكريم، هذه مدونة لكتابات الدكتور/ عصمت سيف الدولة رحمه الله، وليس محمد سيف الدولة مع خالص تحياتنا

      حذف
    2. امام عن مسالة اليهود والصهاينة، فان الحركة الصهيونية التىاحتلت فلسطين لم تكن موجودة وقت نزول الرسالة. وفى ذلك ايضا ان الشيخ احمد ياسين رحمه الله، حين سألوه : هل يحارب اسرائيل لانهم يهود، اجاب بانه يحاربهم لانهم يحتلون فلسطين، ولو احتلها غيرهم لقاتلهم ايضا.

      حذف